فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة النبأ:
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
أصل {عَمَّ} (عَنْ ما)، ثم أدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما لأنها استفهامية، وتقديرها: عن أي شيء يتساءلون، وليس المراد بها هنا مجرد الاستفهام، وإنما المراد تفخيم الأمر. والضمير في {يتساءلون} لكفار قريش، أو لجميع الناس معناه يسأل بعضهم بعضاً {عَنِ النبإ العظيم} هون ما جاءت به الشريعة من التوحيد والبعث والجزاء وغير ذلك، ويتعلق عن النبأ بفعل محذوف يفسر الظاهر تقديره: يتساءلون عن النبأ، ووقعت هذه الجملة جواباً عن الاستفهام وبياناً للمسؤول عنه كأنه لما قال: {عم يتساءلون} أجاب فقال: {يتساءلون عن النبأ العظيم}.
وقيل: يتعلق {عن النبأ} بـ: {يتساءلون} الظاهر، والمعنى على هذا لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والأول أفصح وأبرع وينبغي على ذلك أن يوقف على قوله: {عم يتساءلون} {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} إن كان الضمير {في يتساءلون} لكفار قريش، فاختلافهم أن منهم من يقطع بالتكذيب، ومنهم من يشك أن يكون اختلافهم؛ قول بعضهم سحر، وقول بعضهم شعر وكهانة وغير ذلك، وإن كان الضمير لجميع الناس فاختلافهم أن منهم المؤمن والكفار.
{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردع وتهديد ثم كرره للتأكيد {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً} أي فراشاً، وإنما ذكر الله تعالى هنا هذه المخلوقات على جهة التوقيف ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من البعث كأنه يقول: إن الإله الذي قدر على خلقة هذه المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم، ويحتمل أنه ذكرها حجة على التوحيد؛ لأن الذي خلق هذه المخلوقات هو الإله وحده لا شريك له {والجبال أَوْتَاداً} شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي من زوجين ذكراً وأنثى، وقيل: معناه أنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة لكم، وقيل: معناه قطعاً للأعمال والتصرف. والسبت: القطع.
وقيل: معناه موتاً؛ لأن النوم هو الموت الأصغر، ومنه قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} شبهه بالثياب التي تلبس لأنه ستر عن العيون {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} أي تطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش، وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السبات، الذي بمعنى الموت {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني السموات {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعني الشمس. الوهّاج الوقاد الشديد الإضاءة، وقيل: الحار الذي يضطرم من شدة لهبه {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجاً} يعني: المطر. المعصرات: هي السحاب وهو مأخوذ من العصر؛ لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء أو من العصرة؛ بمعنى الإغاثة. ومنه: وفيه يعصرون، وقيل: هي السموات وقيل: الرياح والثجَّاج السريع الاندفاع {لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً} الحب هو القمح والشعير وسائر الحبوب والنبات هو العشب {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي ملتفة وهو جمع لف بضم اللام، وقيل: بالكسر وقيل: لا واحد له {كَانَ مِيقَاتاً} أي في وقت معلوم.
{يوم يُنفَخُ فِي الصور} يعني نفخة القيام من القبور {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} أي جماعات {فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي تنفخ فتكون فيها شقاق كالأبواب {وَسُيِّرَتِ الجبال} أي حملت {فَكَانَتْ سَرَاباً} عبارة عن تلاشيها وفنائها، والسراب في اللغة: ما ظهر على البعد أنه ماء، وليس ذلك المراد هنا وإنما هو تشبيه في أنه لا شيء {مِرْصَاداً} أي موضع المرصاد والرصد هو الارتقاب والانتظار، أي تنتظر الكفار ليدخلوها، وقيل: معناه طريقاً للمؤمنين يمرون عليه إلى الجنة لأن الصراط منصوب على جهنم {مَآباً} أي مرجعاً {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} جمع حقبة أو حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدود، وقيل: إنها محدودة ثم اختلف في مقدارها، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنها ثمانون ألف سنة»، وقال ابن عباس: ثلاثون سنة وقيل ثلثمائة سنة، وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقاباً، كلما انقضى حقب جاء إلى آخر غير نهاية وقيل: إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي، ثم نسخ بقوله: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} وهذا خطاب لأن الأخبار لا تنسخ، وقيل: هي في غُصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، وقيل: معناه أنهم يبقون أحياناً لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، ثم يبدل لهم نوع آخر من العذاب {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} أي لا يذوقون برودة تخفف عنهم حر النار.
وقيل: لا يذوقون ماء بارداً وقيل: البرد هنا النوم والأول أظهر {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} استثناء من الشراب وهو متصل، والحميم: الماء الحار. والغساق: صديد أهل النار، وقد ذكر في سورة داود [ص: 57] {جَزَاءً وِفَاقاً} أي موافقاً أعمالهم لأن أعمالهم كفر وجزاؤهم النار، ووفاقاً مصدر وصف به أو هو على حذف مضاف تقديره ذو وفاق {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} هذا مثل {لا يرجون لقاءنا} وذكر ذكر {كِذَّاباً} بالتشديد مصدر بمعنى تكذيب وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة، وهي تكذيب بعضهم لبعض {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نزل في أهل النار من هذه الآية».
{مَفَازاً} أي موضع فوز يعني الجنة {حَدَآئِقَ} أي بساتين {وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها {أَتْرَاباً} أي على سن واحد {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي ملأى وقيل: صافية، والأول أشهر {عَطَاءً حِسَاباً} أي كافياً من أحسب الشيء إذا كفاه، وقيل: معناه على حسب أعمالهم {رَّبِّ السماوات} بالرفع مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر وبالخفض صفة لـ: {ربك}، و{الرحمنُ} بالخفض صفة، وبالرفع خبر المبتدأ أو خبر ابتداء مضمر {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} قال ابن عطية: الضمير للكفار أي لا يملكون أن يخاطبوه بمقدرة ولا غيرها، وقيل: المعنى لا يقدرون أن يخاطبهم كقوله: {ولا يكلمهم الله}، وقال الزمخشري: الضمير لجميع الخلق أي ليس بأيديهم شيء من خطاب الله {يوم يَقُومُ الروح} قيل هو جبريل، وقيل: ملك عظيم يكون هو وحده صفاً والملائكة صفاً، وقيل: يعني أرواح بني آدم فهو اسم جنس، و{يوم} يتعلق بـ: {لا يملكون} أو بـ: {لا يتكلمون}.
{لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} الضمير للملائكة والروح، أي تمنعهم الهيبة من الكلام إلا من بعد أن يأذن الله لهم. وقول الصواب يكون في ذلك الموطن على هذا.
وقيل: الضمير للناس خاصة والصواب المشار إليه قول: إلا إله إلا الله أي من قالها في الدنيا {ذَلِكَ اليوم الحق} أي الحق وجوده ووقوعه {فَمَن شَاءَ} تخصيص وترغيب {عَذَاباً قَرِيباً} يعني عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب، أو لأن الدنيا علي آخرها {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} المرء هنا عموم في المؤمن والكافر، وقيل: هو المؤمن وقيل: هو الكافر، والعموم أحسن، لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] الآية {وَيَقول الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً} يتمنى أن يكون يوم القيامة تراباً فلا يحاسب ولا يجازى، وقيل: تمنى أن يكون في الدنيا تراباً أي لم يخلق.
وروي أن البهائم تحشر ليقتص لبعضهم من بعض ثم ترد تراباً، فيتمنى الكافر أن يكون تراباً مثلها، وهذا يقوّي الأول، وقيل: الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب، مثل آدم وذريته لما رأى ثوابهم، وقد كان احتقر التراب في قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12]. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة النبأ:
مكية.
وآيها إحدى وأربعون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}
أصله عما فحذف الألف لما مر، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين عنه استهزاء كقولهم: يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم، أو للناس.
{عَنِ النبإ العظيم} بيان لشأن المفخم أو صلة {يَتَسَاءلُونَ} و{عَمَّ} متعلق بمضمر مفسر به، ويدل عليه قراءة يعقوب: {عمه}.
{الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} بجزم النفي والشك فيه، أو بالإقرار والإِنكار.
{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردع عن التساؤل ووعيد عليه.
{ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} تكرير للمبالغة و{ثُمَّ} للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد، وقيل الأول عند النزع والثاني في القيامة، أو الأول للبعث والثاني للجزاء.
وعن ابن عامر {ستعلمون} بالتاء على تقدير قل لهم ستعلمون.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً} تذكير ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالة على كمال قدرته ليستدلوا بذلك على صحة البعث كما مر تقريره مراراً، وقرئ: {مهداً} أي أنها لهم كالمهد للصبي مصدر سمي به ما يمهد لينوم عليه.
{وخلقناكم أزواجا} ذكراً وأنثى.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} قطعاً عن الإِحساس والحركة استراحة للقوى الحيوانية وإزاحة لكلاهما، أو موتاً لأنه أحد التوفيين ومنه المسبوت للميت، وأصله القطع أيضاً.
{وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء.
{وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به، أو حياة تنبعثون فيها عن نومكم.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} سبع سموات أقوياء محكمات لا يؤثر فيها مرور الدهور.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} متلألئاً وقاداً من وهجت النار إذا أضاءت، أو بالغاً في الحرارة من الوهج وهو الحر والمراد الشمس.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمر كقولك: احصد الزرع إذا حان له أن يحصد، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، أو الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدرأ خلافه، ويؤيده أنه قرئ: {بالمعصرات}.
{مَاءً ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى، وقرئ: {ثَجَّاجاً} ومثاجج الماء مصابه.
{لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً} ما يقتات به وما يعتلف من التبن والحشيش.
{وجنات أَلْفَافاً} ملتفة بعضها ببعض جمع لف كجذع.
قال:
جَنَّة لفَّ وَعَيْشٌ مُغْدق ** وَنَدَامى كُلُّهُمْ بِيضٌ زهر

أو لفيف كشريف أو لف جمع لفاء كخضراء وخضر وأخضار أو متلفة بحذف الزوائد.
{إِنَّ يوم الفصل كَانَ} في علم الله تعالى أو في حكمه.
{ميقاتا} حدًّا تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده، أو حدًّا للخلائق ينتهون إليه.
{يوم يُنفَخُ في الصور} بدل أو بيان ليوم الفصل.
{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} جماعات من القبور إلى المحشر.
روي «أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون يسبحون على وجوههم، وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم فيسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم» ثم فسرهم بالقتات وأهل السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم، والعلماء الذين خالف قولهم عملهم، والمؤذين جيرانهم والساعين بالناس إلى السلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى، والمتكبرين الخيلاء.
{وَفُتِحَتِ السماء} وشققت وقرأ الكوفيون بالتخفيف.
{فَكَانَتْ أبوابا} فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو فصارت ذات أبواب.
{وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الهواء كالهباء.
{فَكَانَتْ سَرَاباً} مثل سراب إذ ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها وانبثاثها.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار، أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها، كالمضمار فإنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل، أو مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منها واحد كالمطعان، وقرئ {أن} بالفتح على التعليل لقيام الساعة.
{للطاغين مَئَاباً} مرجعاً ومأوى.
{لابثين فِيهَا} وقرأ حمزة وروح {لبثين} وهو أبلغ.
{أَحْقَاباً} دهوراً متتابعة، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة، فليس فيه ما يتقضى تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطق الدال على خلود الكفار، ولو جعل قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} حالاً من المستكن في {لابثين} أو نصب {أَحْقَاباً} بـ: {لاَ يَذُوقُونَ} احتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون جنساً آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذا قل مطره وخيره فيكون حالاً بمعنى لابثين فيها حقبين، وقوله: {لاَ يَذُوقُونَ} تفسير له والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار أو النوم، وبالغساق ما يغسق أي يسيل من صديدهم، وقيل الزمهرير وهو مستثنى من البرد إلا أنه أخر ليتوافق رؤوس الآي، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد.
{جَزَاءً وفاقا} أي جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقاً لها أو وافقها وفاقاً، وقرئ: {وفاقا} فعال من وفقه كذا.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} بيان لما وافقه هذا الجزاء.
{وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} تكذيباً وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله:
فَصَدَقْتَهَا وَكَذَبْتَهَا ** وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَّابُهْ

وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم، أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون كاذبين عندهم فكان بينهم مكاذبة، أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة فيه، وعلى المعنىين يجوز أن يكون حالاً بمعنى كاذبين أو مكاذبين، ويؤيده أنه قرئ: {كَذَّاباً} وهو جمع كاذب، ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيباً مفرطاً كذبه.
{وَكُلَّ شيء أحصيناه} وقرئ بالرفع على الابتداء.
{كتابا} مصدر لأحصيناه فإن الأحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوباً في اللوح، أو صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومجيئه على طريقة الالتفات للمبالغة. وفي الحديث: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فوزاً أو موضع فوز.
{حَدَائِقَ وأعنابا} بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من {مَفَازاً} بدل الاشتمال والبعض.
{وَكَوَاعِبَ} نساء فلكت ثديهن {أَتْرَاباً} لدات {وَكَأْساً دِهَاقاً} ملآنا وأدهق الحوض ملآه.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً} وقرأ الكسائي بالتخفيف أي كذباً أو مكاذبةٍ، إذ لا يكذب بعضهم بعضاً.
{جَزَاءً مّن رَّبّكَ}. بمقتضى وعده.
{عَطَاءً} تفضلاً منه إذ لا يجب عليه شيء، وهو بدل من {جَزَاء}، وقيل منتصف به نصب المفعول به.
{حِسَاباً} كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، أو على حسب أعمالهم وقرئ: {حِسَاباً} أي محسباً كالدراك بمعنى المدرك.
{رَبِّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من ربك وقد رفعه الحجازيان وأبو عمرو على الابتداء.
{الرحمن} بالجر صفة له وكذا في قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب بالرفع في قراءة أبي عمرو، وفي قراءة حمزة والكسائي بجر الأول ورفع الثاني على أنه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} والواو لأهل السموات والأرض أي لا يملكون خطابه، والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له على الاطلاق فلا يستحقون عليه اعتراضاً وذلك لا ينافي الشفاعة بإذنه.
{يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقال صَوَاباً} تقرير وتوكيد لقوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ}، فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صواباً كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم و{يوم} ظرف لـ: {لاَّ يَمْلِكُونَ}، أو لـ: {يَتَكَلَّمُونَ} و. ملك موكل على الأرواح أو جنسها، أو جبريل عليه السلام أو خلق أعظم من الملائكة.
{ذَلِكَ اليوم الحق} الكائن لا محالة.
{فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ} إلى ثوابه.
{مَئَاباً} بالإيمان والطاعة.
{إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني عذاب الآخرة، وقربه لتحققه فإن كل ما هو آت قريب ولأن مبدأه الموت.
{يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} يرى ما قدمه من خير أو شر، و{المرء} عام. وقيل هو الكافر لقوله: {إِنَّا أنذرناكم} فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذم، و{مَا} موصولة منصوبة بينظر أو استفهامية منصوبة بـ: {قَدَّمْتُ}، أي ينظر أي شيء قدمت يداه.
{وَيَقول الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أبعث، وقيل يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثم ترد تراباً فيود الكافر حالها.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة عم سقاه الله برد الشراب يوم القيامة». اهـ.